الخميس، 28 أغسطس 2008

من الحواسيب الشخصية للحوسبة المُوَزّعة

لم ينته بعد عهد أجهزة الكومبيوتر الشخصية، لكنها، وبسبب بزوغ ظاهرة الحوسبة المُوزعة، ربما تفقد تدريجياً دورها كمحور تعامل المستخدم مع المعلومات.

فقد كثُر الحديث خلال العام الجاري وسابقه عن الحوسبة المُوزّعة أو حوسبة الغمام (Cloud Computing)، باعتبارها الوجهة المستقبلية في تقنيات المعلومات. وكما الحال عندما تبزغ مصطلحات أو ظواهر جديدة في ذلك الميدان، تتواتر إلى جانب الحقائق مبالغات وتخمينات. فحتى تعريف المصطلح لا يزال محل تنقيح وإعادة نظر لدى المتخصصين، بحسب ما ذكر مدير مشروعات الحوسبة عالية الأداء بشركة »آي بي إم«، ويلي تشيو، (Willy Chiu) في مقال نشر له الشهر الماضي.

ولا مفر قبل الخوض في »الحوسبة الموزعة« من إشارة لسبب اختيار هذا التعبير كترجمة لمصطلح (Cloud Computing). فقد ترجمته بعض التقارير الصحافية العربية إلى »حوسبة الغمام« و»حوسبة السحب«. غير أن هاتين الترجمتين ربما تنأيان بمخيلة القارئ عن المعنى المقصود للتعبير. ومن ثمّ كان تفضيل »الحوسبة الموزعة«، الذي قد لا يكافئ المصطلح الإنجليزي بصورة مباشرة، ولكن يشرحه بصورة أكثر دقة.

فاستخدام »سحابة« (cloud) في المصطلح الأصلي مجازي، ويعني شبكة الحواسيب. وقد شاع ذلك الاستخدام المجازي في الإنكليزية تدريجياً منذ التسعينيات ومع صعود الإنترنت. ولكن ترجمته الحرفية إلى العربية غير دالة.

والحوسبة المُوزّعة في جوهرها تعني أن يفقد الكومبيوتر الشخصي، ببرمجياته وقدرته الحاسوبية وسعته التخزينية، دوره كمركز لتفاعل المرء مع المعلومات، في المنزل أو العمل، لتحل محله الخدمات الحاسوبية التي تقدمها شبكات الكومبيوتر متعددة الأغراض. وبرمجيات معالجة النصوص هي مثال مبدئي على ذلك. فحتى عام ٢٠٠٥ تقريبا لم يكن ثمة سبيل لكتابة النصوص وتحريرها وتنسيقها سوى أن يشترى المرء برمجية مخصصة لذلك الغرض، مثل »وورد« (Word)، وأن يثبتها على حاسوبه الشخصي. ولكن، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بزغت برمجيات على الانترنت لمعالجة النصوص، من »زوهو« (Zoho) و»غوغل« وغيرهما. وتمكّن تلك البرمجيات المستخدم من كتابة وتحرير النصوص، دون الحاجة غالبا لشراء برمجيات أو تثبيتها على الحاسوب الشخصي أو تحديثها بين الحين والآخر.

الأوجه الأربعة للحوسبة المُوزّعة

لكن، وبعيداً عن المثال التبسيطي لمعالج النصوص فإن مفهوم الحوسبة المُوزّعة ينطوي على تطورات أخرى، بعضها يعتمل منذ سنوات عديدة. وللإلمام بالأوجه المختلفة للظاهرة الجديدة، لا بد من النظر لتلك التطورات.

أول هذه التطورات هو صعود مفهوم »البرمجيات كخدمة وليس كمُنتج« (software as a service). فمنذ الثمانينيات ساد تقريبا نموذج »الترخيص«، وفيه يشتري الفرد (أو المؤسسة التجارية) برنامجا ما ويثبته على حاسوبه. ويصحب ذلك نفقات عالية نسبيا ناتجة عن شراء وصيانة وتحديث البرمجيات والحواسيب المتكافئة، وغيرها. أما الآن فثمة طيف واسع من البرمجيات (للأفراد كما للمؤسسات التجارية)، يستطيع المرء الاستفادة منها، ليس بشرائها وتثبيتها، وإنما مجانا أو باشتراك بأجل. فلا يُضطر المرء لصيانتها أو تحديثها. وتكون كلفة الاشتراك الشهري أو السنوي أقل من كلفة شراء البرمجية. ومن أمثلة ذلك برمجيات البريد الإلكتروني ومعالجة النصوص وخدمة العملاء (ومنها SalesForce.com) والتعاملات المالية للأفراد والمؤسسات وغيرها.

وليس المستخدم المستفيد الوحيد من نموذج البرمجيات كخدمة. فمطورو البرمجيات سيرشدون طاقتهم وجهدهم وسيرفعون أرباحهم. إذ بدلاً من الجهد المبذول في صيانة وتحديث البرمجية لدى كل مستخدم (أو شركة) على حدة، لن يكون لدى تلك الشركات سوى إصدار واحد. فلو أن »غوغل« مثلاً باعت برمجية البحث لتعمل على الحواسيب الشخصية عبر متصفح الإنترنت، لاضطرت لتحديث وصيانة ملايين الحواسيب عبر العالم (كما تفعل »مايكروسوفت« في نظام تشغيلها »ويندوز«). أما وقد اختارت أن تقدم برمجيتها كخدمة مجانية فإن لديها إصداراً واحداً فحسب، تحسنه وتحدثه دون أن يعرف المستخدم. ولا يحتاج المرء في استخدام محرك البحث سوى إلى نافذة متصفح إنترنت... وقد ولجت شركات كبرى غمار »البرمجيات كخدمة« مثل »أوراكل« و»ساب«، وكلتاهما صعد نجمهما في حقبة البرمجيات المثبتة على الحواسيب الشخصية للأفراد والمؤسسات التجارية.

عتاد الكومبيوتر كخدمة

تواتر الحديث خلال الأعوام الأخيرة عن تحول عتاد الكومبيوتر (hardware) إلى خدمة تقدمها شركة الحوسبة، كما تفعل شركات توليد الكهرباء أو شركات الخدمات الهاتفية. فربما ليس ثمة مجال للجدال حول الأهمية المحورية التي تحظى بها تقنيات المعلومات في شتى أوجه النشاط الإنساني، لكن ليست كل المؤسسات لديها بالضرورة الخبرة الكافية ولا الرغبة في توظيف فرق من المهندسين والمبرمجين لإدارة البنى التحتية المعلوماتية (المكلفة) اللازمة لعملها. ومن ثمّ بدأت شركات الحوسبة الكبرى في طرح إمكانياتها من العتاد الحاسوبي للـ »إيجار« لمن يرغب من المؤسسات في الاستفادة منها لفترة محددة، خاصة تلك التي تحتاج الطاقة الحاسوبية لوظيفة أو مشروع محدد فحسب.

وغني عن البيان أن نموذج »عتاد الكومبيوتر عند الطلب« لا يقتصر على تأجير الأجهزة، وإنما يشمل حزمة الخدمات (العتاد الحاسوبي والبرمجيات والخبرة الفنية) اللازمة لإنجاز عمل معين. ومن أمثلة ذلك استعانة شركة »دريم ووركس« بـ »هيولت باكارد« في توفير الطاقة الحاسوبية اللازمة لإنتاج سلسلة الأفلام الناجحة »شْرِك« (Shrek) بدل شرائها بتكاليف باهظة لإنتاج الفيلم الكرتوني. فاستفادت من خبرة »هيولت باكارد« في شؤون الحوسبة، وركزت هي على خبرتها في شؤون الأفلام.

الحوسبة الآنية

أما التطور الثالث الذي قاد إلى الحوسبة المُوزّعة فهو الحاجة لحوسبة آنية. فخلال الأعوام الخمسة الماضية شهدنا ظهور أجهزة حاسوبية، مثل الهواتف الذكية وحواسيب اليد، تُكمل أداء الحواسيب التقليدية، المكتبية والمحمولة. ومع استخدام المرء لأكثر من جهاز كومبيوتر، توزعت المعلومات، أو تشتت. وهكذا بزغت الحاجة لطريقة لجسر الهوة بين المستخدم وملفاته ومستنداته الإلكترونية، بحيث يبلغها بصورة لحظية، أيا كان الجهاز الذي يستضيفها.


ويعني ذلك أن تتوافر نسخ من ملفاته المنتشرة عبر الأجهزة المختلفة على كومبيوتر خادم يمكن الاتصال به عبر الانترنت واستدعاء ما يشاء المرء من ملفات. ولعل المثال الأشهر والأحدث الآن على هذا التوجه هو خدمة »موبايل مي« (Mobile Me) من شركة »أبل«. وتنشئ »موبايل مي« للمشترك نسخاً من كل ملفاته على أجهزته الحاسوبية المختلفة، فيستطيع المرء أن يسترجع هذه الملفات عبر أي من هذه الأجهزة، أو أي جهاز كومبيوتر متصل بالإنترنت.

فائض الطاقة الحاسوبية

أما التطور الرابع الذي يغذي الاتجاه نحو الحوسبة المُوزّعة فهو توافر طاقة حاسوبية زائدة لدى بعض مقدمي الخدمات. فالشركات التي تعتمد على تواجد إنترنتي مستمر، مثل متجر »أمازون« (Amazon.com) أو موقع »ياهو«، قد أنشأت بنية تحتية هائلة من الحواسيب الخادمة والبرمجيات التي تديرها تحسباً لـ »أوقات الذروة« في نشاط المستخدمين. ولكن أوقات الذروة قليلة، ومن ثم يظل قدر غير قليل من الطاقة الحاسوبية بغير استخدام. لذلك أقدمت شركات تقنيات المعلومات على تقديم خدمات تستفيد من فائض الطــاقة الحاســوبية لديها. فشركة »أمازون« بدأت تقديم خدمتي »S3« للسعة التخزينية و»EC2« للطاقة الحاســوبية، للشركات الصغيرة التي ترغــب في الحصول على سعة تخزيــنية رقــمية وطــاقة حاســوبية محــددة، دون الحـاجة لشراء الحواسـيب والبرمجيات.

ولم يكن فائض الطاقة الحاسوبية (في المعالجات الحاسوبية أو القدرة التخزينية) ممكناً لولا الانخفاض المستمر في أسعارهما.

نهاية مركزية الحاسوب الشخصي

الحوسبة المُوزّعة نتاج تعاضد وتفاعل تلك التطورات الأربعة. ومن ثم، فإن تعريف »ويلى تشيو« (من شركة »آي بي إم«) لها ربما يكون أكثر وضوحا الآن. في مقاله المنشور على موقع مديــري تقنيات المعلومات (CIO.com)، يعرف »تشيو« التوجه الجديد بأنه »بالأساس أسلوب في الاستخدام الجمعي للبنى التحــتية المعلوماتية، وفيه ترتبط أنظمة حاسوبية ببعضها البعض لتوفر مدى واسعاً من الخدمات الحاسوبية«.

فالحوسبة المُوزّعة انتقال من مرحلة الاستثمار في الحواسيب والبرمجيات، إلى مرحلة الإنفاق على الخدمات التي يحتاجها الفرد أو الجماعة. وهي أيضا انتقال من حقبة الأجهزة المتفرقة كالجزر إلى الشبكات المُجمعة ـ ومن هنا جاء استخدام لفظة »سُحب« (Cloud) في المصطلح الإنكليزي: (Cloud Computing). فنيابة عن الأجهزة الحاسوبية المتفرقة، والتي تحوي نسخا مكررة من الملفات والمستندات ذاتها، ستحوي الشبكة الحاسوبية نسخاً موحدة يمكن الوصول إليها عبر أي كومبيوتر متصل بالإنترنت. وكذلك، تمثل هذه الحوسبة معيارا جديدا، كأنه نظام تشغيل ضخم يعمل عبر الإنترنت، ويمكن عبره إنشاء وحفظ واسترجاع الملفات. وتكون الكومبيوترات الشخصية أشبه ما يكون بملحقات طرفية بذلك النظام الضخم.

ومن الإنجازات المتوقعة للحوسبة المُوزّعة أيضا إتاحة إمكانيات حاسوبية للأفراد كانت من قبل حكراً على المؤسسات الكبرى. فقد أتاحت »غوغل« و»آي بي إم« لجامعات أميركية استخدام شبكاتها الحاسوبية لتطوير وتجريب البرمجيات المصممة للحواسيب الفائقة (supercomputers). وربما يتاح ذلك للأفراد في المستقبل القريب عبر شبكة الإنترنت. ويذكر هذا بالجملة الشهيرة التي أطلقتها شركة »صن مايكـروسيستمز« أوائل التسعــينيات بــأن »الشبكة هي الحاسوب« (The network is the computer) في إشارة إلى أن نشاط المستخدم سيتركز تدريجياً على الشبكة، لدرجة أن تصبح هي بمثابة الحاسوب الشخصي.

ولكن ثمة عقبات أمام انتشار مفهوم الحوسبة المُوزّعة أهمها عدم وجود معايير موحدة لتفاعل وتكامل البرمجيات والعتاد الحاسوبي على شبكة الإنترنت. ففي سيناريو الحوسبة المُوزّعة تستطيع شركة أن تستفيد من برمجية قواعد بيانات هائلة من أوراكل مثلاً لتعمل على عتاد حاسوبي من شركة »آي بي إم« لإنجاز مشروع في دول عديدة. نظرياً ربما يكون هذا ممكناً، ولكن التوافق بين الأنواع المختلفة للبرمجيات والعتاد الحاسوبي المتصل بالإنترنت ربما يحتاج بعض الوقت ليتحقق على الوجه المُبتغى. وربما لهذا السبب أعلنت الشهر الماضي شركات »ياهو« و»إنتل« و»هيولت باكارد« وبالتعاون مع جامعات أميركية، منها جامعــة شيــكاغو، عن مشروع بحثي حول الحوسبة المُوزّعة، وكيف يمكن تحـقيق التوافق بين معايير مختلفة من البرمجيات والعتاد الحاسوبي على الإنترنت.

نُشر المقال في صحيفة السفير اللبنانية في الثامن والعشرين من أغسطس/آب 2008