السبت، 4 يناير 2014

خمسون عاما على رحيل كنيدي

مقال منشور في عدد  يناير 2014 من مجلة العربي الكويتية



لم تكن قد مرّت ساعة على تعرض الموكب الرئاسي للرصاص، حين أعلن وولتر كرونكايت، مذيع شبكة التليفزيون “سي بي إس”، وهو يبدل مضطربا موقع نظارته ليواريَ دمعه، أن الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة قد لقي مصرعه.

كان لاغتيال جون كنيدي وقعُ المأساة. فبُعَيْد انطلاق الرصاصات الثلاث القاتلة في مدينة دالاس في خريف العام ١٩٦٣، بث هؤلاء الذين نعوا كنيدي شعورا جمعيا بأن الموت الذي عاجل الرئيس الشاب قد حال بينه وبين إكمال مشروعه. وإن قصد النّاعون أبعادا مختلفة ومعاني متباينة لذلك المشروع. فحفلت تعليقات الكتاب وافتتاحيات الصُحُف بمفردات “النهاية قبل الأوان،” ثم بالسؤال المنبثق من ذلك المعنى، والذي شغل كُتّابا ومؤرخين لأعوام وعقود تالية: “ماذا لو لم يُقتل كنيدي في ولاية الجنوب تكساس، في الثاني والعشرين من نوفمبر؟”


بعد نحو شهر من الاغتيال، نَعَتْ حنا أرِنت، الكاتبة الشهيرة، جون كنيدي والبابا يوحنا الثالث والعشرين (الذي رحل قبل كنيدي بأشهر على أثر الإصابة بسرطان المعدة) فقالت: “الراحلان كلاهما غادرا قبل الأوان كثيرا، وذلك باعتبار المشروع الذي بدأه كل منهما ولم يكمله. وقد تغير العالم وأظلم حين سقط في الصمت صوتاهما. ورغم ذلك، فإن حياتيهما قد غيرتا العالم، ولن يعود العالم أبدا لما كان قبل أن يرى هذين الرجلين.”

فما الذي تغير برئاسة كنيدي الولايات المتحدة لألْفٍ من الأيام؟ هل فقد الأميركيون بموته رمز الأمل في عهد ما بعد الحرب الكبرى؟ أكان ثمة فجوة بين أقواله وأفعاله واضطراب في صياغة مواقف بلاده، حسبما كتب في العام ١٩٦٦هانز مورغنثاو؟ وهل كان أثر كنيدي على المزاج الأميركي محصورا في سياساته كرئيس، أم في قصته (وآلامه) كشخص لم يكن براءا من العيوب، عاش حياة أغلبها في الوعي العام؟

وماذا لو لم يُغتل كنيدي، وأمهله الرصاص لإكمال فترته الرئاسية الأولى، واستمر بعدها لفترة ثانية حسبما كانت خططه؟ أكان يتغير مسار تاريخ الولايات المتحدة داخليا أو في علاقاتها بالأعداء والحلفاء؟ أكان يتغير مسار الحرب الباردة، أو تتبدّل طبيعة العلاقة بين البيض والسود ومسار حقوق المواطنة؟ أكان الرئيس الشاب، الذي كثيرا ما بشّر في خُطبه بقيم الحرية لكل البشر، يوجه الولايات المتحدة لمسلك غير الذي سلكته (عبر أجهزة الاستخبارات) في سعيها لإسقاط أو إضعاف الأنظمة المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي أو المناوئة للقطب الغربي؟

وإذ تعبر بنا هذا العام الذكرى الخمسون لرحيل كنيدي – ذكرى الاغتيال في الثاني والعشرين من نوفمبر ١٩٦٣ — لا يزال السعى متصلا للإجابة عن طرف من تلك الأسئلة. وآية ذلك ظهورُ طيفٍ جديدٍ من الكتب والأفلام (والصور على أغلفة المجلات السيارة) عن كنيدي التي صاحبت الذكرى. ورغم أن نحو أربعين ألف كتاب قد تناولت حياة وموت كنيدي منذ صعوده إلى سُدَّة الحكم في العام ١٩٦١، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز،" فإن أثره لا يزال "مراوغا،" كما كتبت "جيل أبرامسن" المحرر التنفيذي للصحيفة الأميركية واسعة الانتشار.

هذا الاستعصاء وهذه المُرَاوغة، في جانبٍ منهما، مردُّهما إلى قِصر ما قضى كنيدي في الحكم، ثم لاغتيال شقيقه “روبرت” (وكان النائب العام في عهد أخيه) في العام ١٩٦٨، ثم لحرص آل كنيدي، من زوجته وإخوانه ومن عملوا في إدارته، على التحكم في رواية التاريخ عن الرئيس الشاب. ومن ذلك، مثلا، أن بعض الحوارات المسجلة لزوجة كنيدي، جاكلين، لن تتاح قبل العام ٢٠٦٧.

فماذا بقي من كنيدي، في السياسة الأميركية وفي الوعي الأميركي، بعد خمسين خريفا من رحيله ظهيرة ذلك اليوم البعيد من نوفمبر؟


نداء تكساس

كأن للصحف حياتين: حياة لاهثة وراء ما وقع للتّوّ، وأخرى لاهية عما سيقع، مهما عظُم أثرُه، وإن لم يفصل هذه عن تلك في حساب الزمن سوى سويعات. أو هكذا قد يبدو المشهد الآن للناظر إلى عناوين صباح الثاني والعشرين من نوفمبر 1963.

كانت الأخبار تجيء ناعسة من ولاية تكساس، حيث توجه كنيدي وزوجته لزيارةٍ كان مخططًا ألا تتجاوز يومين عن افتتاح مركز طبي في مدينة سان أنتونيو؛ كلمة في مدينة هيوستن لتجمع للأميركان المنحدرين من دول من أميركا اللاتينية؛ غداء لتكريم عضو مخضرم بالكونغرس في فورت ورث. ثم كان الحديث عن المدينة الرابعة في الزيارة، دالاس، يوم الثاني والعشرين، وحيث كان كنيدي سيلقي كلمة على غداء لـ “مجلس مواطني دالاس” ويتحدث للحضور في مركز بحثي بالمدينة. (حَوَت كلمة كنيدي لذلك المجلس، والذي لم تمهله المنية ليتلوها، اقتباسا من مزمور من العهد القديم: “ما جدوى الحرس إن لم يحرس الرب”؟)

كانت زيارة تكساس من بوادر الحملة الانتخابية لفترة ثانية لكنيدي، إذ كانت الانتخابات على مبعدة عام. وقد سبقت تكساس زيارات خاطفة لتسع من ولايات الغرب. في كل من تلك الزيارات كان كنيدي لا يكتفي بالحديث عن الشؤون المحلية (كالطاقة أو التوظيف)، وإنما يعرج على الشأن الوطني العام، ليتحدث عن الأمن الوطني والحفاظ على التفوق العسكري الأميركي على الاتحاد السوفياتي، القطب الآخر في الحرب الباردة، وتحسين التأمين الصحي لعموم الأميركان، وأهمية تواصل الاستثمار في استكشاف الفضاء. ورغم أن كنيدي لم يكن قد أعلن رسميا عزمه الترشح لولاية ثانية، فإن اجتماعا تمهيديا للحملة الانتخابية بالبيت الأبيض في الثاني عشر من نوفمبر كان قد انتهى إلى أهمية أن يحظى الرئيس بأصوات تكساس وفلويدا، ولايتي الجنوب المحوريتين، ليفوز بفترة رئاسية تالية.

أدرك خصوم كنيدي السياسيون أنه يدشن حملته الانتخابية، وسرعان ما دشّنوا حملة لانتقاده. من هؤلاء رتشارد نكسون (مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات ١٩٦٠)، الذي قال معقبا على زيارة تكساس: :كنيدي “يقود حملة علاقات عامة مهولة، ولكن أداءه كرئيس متواضع.”

في واشنطن العاصمة تطايرت أخبار عن الاستعدادات للانتخابات الرئاسية التالية. ومن ذلك خبر ينفي فيه روبرت كنيدي، الشقيق الأصغر للرئيس (والذي شغل منصب النائب العام) أنه سيقود الحملة الانتخابية الثانية للرئيس الشاب. ولكن أخبار واشنطن شملت طيفا آخر من شؤون الحكم. ومن ذلك مطالبة إدارة كنيدي الكونغرس بالموافقة على رفع سقف الدين الحكومي إلى ٣١٥ مليار دولار. (تجاوز ذلك الدين ١٥ تريليون دولار في ٢٠١٣، أي ما يربو على ٥٠ ضعفًا، بغير حساب التضخم.) كذلك حملت قصص صحافية مخاوف ديمقراطيين وجمهوريين من أن تتجاوز كلفة برنامج التأمين الصحي لكبار السن تقديرات الرئيس كنيدي وإدارته — وهو برنامج لن يرى النور إلا في عهد خَلَفه الرئيس جونسون.

وفي ذلك الحين، وجدت سبيلَها إلى القراء كتبٌ تنتقد الرئيس. ومنها كتاب فكتور لاسكي: “كنيدي: الرجل والأسطورة” الصادر في العالم ذاته، ١٩٦٣، والذي هوَّن من سجل كنيدي في الحرب العالمية الثانية، وكذا مسيرته كسياسي في الكونغرس. وفضلا عن ذلك، لم تكن علاقات كنيدي النسائية خافية على الوعي العام، حتى قبل ترشحه للرئاسة.

فرص ولاية ثانية

على أنّ فرص كنيدي في اقتناص ولاية ثانية لم تكن ضئيلة، بالنظر إلى النجاحات التي أحرزتها إدارة الرئيس الشاب، أو صادفتها، على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ومن أهم تلك النجاحات ما كان في ميدان الاقتصادي. حين انتُخب جون كنيدي في نوفمبر ١٩٦٠، بهامش هزيل على منافسه الجمهوري نكسون، كانت الولايات المتحدة تمر بتباطؤ في النمو الاقتصادي، مقرونًا بارتفاع في نسبة العمالة غير المُشغّلة، قاربت سبعة من كل مئة، وهي نسبة مرتفعة بمعايير ذلك الزمن. في كلمة للكونغرس في فبراير ١٩٦١، بعد شهر من توليه الرئاسة رسميا، قال كنيدي: “في السنوات الثلاثة ونصف السنة الماضية، كادت تبلغ الهوة بين الناتج الفعلي للاقتصاد الأميركي والناتج الذي يمكن أن يكون حدَّ المرض المزمن. وفي العام الماضي، تفاقمت المشكلة الاقتصادية بسبب الركود وخسارة الذهب. … هذه الأمة لا تستطيع أن تقبل، ولن تقبل، التراجع الاقتصادي.”

وبُعَيدَ ذلك مباشرة بدأ برنامج التحفيز الاقتصادي الذي اعتمد على زيادة الإنفاق الحكومي، على البنى التحتية والمرافق العامة. واعتمد البرنامج أيضا على تخفيض الضرائب على الدخل إلى مستوى أعلاه نحو ٦٥٪ بعد أن بلغ سقفها ٩١٪ خلال سنوات الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥). على أثر هذه الإصلاحات بدأ تعافي الاقتصاد الأميركي، مدشنا إحدى حقبتي الرخاء الطويلتين، من فبراير ١٩٦١ حتى ديسمبر ١٩٦٩ (أما الثانية فكانت في عهد بل كلنتون، من مارس ١٩٩١ وحتى يناير ٢٠٠٠). وفيها ارتقى مؤشر الاقتصاد منحنى صاعدا لم يبطئه شيء. خلال سنوات كنيدي، من ١٩٦١ وحتى أواخر ١٩٦٣، نما الاقتصاد الأميركي بنحو ٤.٧٪ سنويا، وانعكس ذلك في زيادة المعروض من في فرص العمل — وإن لم تنحدر نسبة غير العاملين دون الـ ٦٪ — وفي ارتفاع مستوى دخل الفرد.

ولكن عوامل أخرى، مما لا يعود لكنيدي، كانت قد تضافرت لجعل هذا الأداء الاقتصادي ممكنا. منها أن أذون الخزانة التي أصدرتها الحكومة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية (وعرفت باسم “أذون الحرب”) لتمويل المجهود الحربي كان حان أوان ردها بحلول أوائل الستينات. وقد أحدثت عودة قيمة الأذون الحكومية، مضافا إليها هامش الربح، رواجا مردُّه إلى رفع القدرة الشرائية للأفراد، ومن ثم زيادة الطلب المحلي.

ومن العوامل التي أسهمت في “رخاء الستينيات” اتساع رقعة الطبقة الوسطى في النسيج الأميركي نتيجة لازدهار الحركة العمالية. حيث بلغت نسبة العمال المسجلين في الاتحادات والتجمعات العمالية قمتها في أواسط الخمسينات. وكان ذلك يعنى أن الأثر الإيجابي للتحسن الاقتصادي قد شمل طبقات أوسع من المجتمع الأميركي (وهو ما لم يحدث بالدرجة ذاتها في رخاء التسعينيات). في جانب كبير منه، كان ذلك الازدهار راجعا لنجاح الحركة العمالية بالولايات المتحدة في إحراز أحد أبرز نجاحاتها قبل ذلك بعقدين تقريبا، بصدور ما عُرف باسم “قانون واجنر” في العام ١٩٣٧. والذي أتاح “التفاوض الجمعي،” أي أن تتفاوض الاتحادات والتجمعات العمالية بالنيابة عن أعضائها مع أرباب العمل بشأن الأجور وظروف العمل المناسبة.

وقد أثمرت تلك العوامل متضافرةً شعورًا عامًّا بالتفاؤل مع استقرار إدارة كنيدي في الحكم. ولكن بقي ثمة منغص ضخم على الصعيد المحلي، وهو الحقوق السياسية للأميركان من أصول إفريقية. وكان التمييز العنصري ضد الأميركان السود، خاصة في ولايات الجنوب، قد خَفُت في الوعي العام خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. ولكن الجنود السود العائدين بعد الحرب، والذين اعتادوا المساواة والمهنية التي تفرضها الحياة العسكرية، وجدوا أن ولايات الجنوب لم تزل مثقلة بتمييز ضد السود وفصل عنصري مقنن في المدارس والحافلات والأماكن العامة، وذلك اتساقا مع قرار للمحكمة الدستورية العليا في العام ١٨٩٦.

 ثبت القرار قانونا من ولاية الجنوب لويزيانا يرى الفصل بين الأفراد من العرقين (الأوروبي والإفريقي)، في الأماكن العامة وغيرها، غير مناقض للمساواة بينهما. ولكن التطبيق كان شيئا آخر. فقد أتاح القانون انتهاكات دموية في ولايات الجنوب (خاصة مسيسبي ولويزيانا وجورجيا وتكساس وألاباما). وكثيرا ما انخرط ضباط الشرطة أنفسهم في تلك الانتهاكات.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية في العام ١٩٤٥، ثم تعمّق حالة الاستقطاب في الحرب الباردة بحلول العام ١٩٤٩ (حين حاز الاتحاد السوفياتي أولى قنابله النووية)، صار وضع الأميركان السود مصدر إحراج للولايات المتحدة. فبين معسكر شرقي يركز، نظريا على الأقل، على المساواة وتوفير الحقوق الأساسية، ومعسكر رأسمالي غربي يركز أكثر على الحريات، وجدت الولايات المتحدة أن حقوق موطنيها السود ليست مما يشجع دولا أخرى على قبول أميركا باعتبارها “قائد العالم الحر،” بل قد يشجع بعضها على النقيض: الانضمام للمعسكر الشيوعي.

في تلك الفترة (١٩٥٦) بدأت وزارة الخارجية الأميركية برنامجا لتقريب الثقافة الأميركية للشعوب في البلدان غير المتحالفة مع الولايات المتحدة عبر “سفراء موسيقى الجاز.” تصدَّر تلك الدبلوماسية الموسيقية أبرز موسيقيي الجاز الأميركان، مثل لوي أرمسترونج وديزي غيلسبي. وطالت تلك الرحلات الموسيقية العراق والكونغو ومصر والهند والاتحاد السوفياتي وغيرها.

بيد أنّ هذه الرحلات قد انتهت إلى غير الهدف الذي من أجله سِيقت (تقديم نظرة إيجابية عن الديمقراطية الأميركية)، أو قُل إنها انتهت أحيانا إلى نقيضه؛ إذ كان أثرها الأكبر لفتَ النظر لدور الأميركان السود في الثقافة الأميركية، وتسليط الضوء على حقوقهم المغبونة. ذلك ما وثَّقه بن إيشن في كتاب صادر في العام ٢٠٠٦ يحمل غلافه صورة لُوِي أرمسترونج مناجيا بـ “ساكسفونه” تمثال أبي الهول. (في واحدة من المسرحيات التي أداها ذلك الفريق الذي جاب العالم، يقول البطل: “يقولون أني، الآدمي، على هيئة الرب؛ أيكون الرب أسود؟ حاشا لله! فإن تكن يا ربُّ قد خلقتنا جميعا على صورتك؛ أفتكون إذن أبيض وأسود في آنٍ معا”؟)

بعد محاولات من إدارة الرئيس أيزنهاور (كشفت عنها الوثائق لاحقا)، أعادت المحكمة العليا النظر في قرار العام ١٨٩٦، وذلك في القضية الشهيرة “براون ضد مجلس التعليم" (بولاية كانزاس)، في العام ١٩٥٤، والتي قوضت الأساس القانوني للفصل العنصري.

فلمّا وَلِيَ كنيدي الرئاسة في العام ١٩٦١، كان زخم حركة الحقوق المدنية متأججا، بفضل قيادات شابة واسعة التأثير في أوساط الأميركان السود، أبرزهم القس الشاب مارتن لوثر كنغ. ورغم أن الأخير كان محط ريبة من مكتب التحقيقات الفيدرالي حتى اغتياله في العام ١٩٦٨، إلا أنه حظي باحترام الأخوين كنيدي، جون الرئيس وروبرت النائب العام. وتضافرت جهودهم في حث الكونغرس على إصدار قانون يقر بغير مواربة الحقوق السياسية المتكافئة للأميركان السود، ويجرم التمييز ضد الأقليات على أساس اللون أو الدين أو العرق، ناهيك عن تجريم التمييز ضد المرأة. وكان كنيدي يعتقد أن استصدار ذلك القانون، فضلا عن وجاهة المقصد وعدالته، محوري لتحسين فرصه في ولاية ثانية. صدر القانون لاحقا، في يوليو ١٩٦٥، في عهد الرئيس جونسون.

أزمة الصواريخ الكوبية

أصاب كنيدي نجاحاتٍ على صعيد السياسة الدولية، لعل أهمها إدارته لأزمة الصواريخ الكوبية. ففي الرابع عشر من أكتوبر في العام ١٩٦٢كشفت صور من طائرات التجسس الأميركية من طراز يو-تو أن الاتحاد السوفياتي أدخل سرا صواريخ نووية إلى كوبا، الجارة الجنوبية (والشيوعية) للولايات المتحدة. إزاء هذا الخطر الداهم، كان على الرئيس كنيدي أن يتبني أحد مسارين للتعاطي مع التهديد السوفياتي، كلٌّ منهما يتّكئ إلى سابقةٍ تاريخية، وكلٌّ منهما يمثّل سيناريو على أساسه تتحدَّد وجهته.

رأي جنرالاته إلى أنه لا مناص من غزو كوبا، لأن تلك الصواريخ، والتي كانت قيد التجميع وتوشك على الجهوزية للإطلاق، وضعت العاصمة الأميركية وأغلب المدن الأميركية الكبرى في مرماها. وذهب الجنرالات إلى أن أي تنازل أو توسط في الموقف الأميركي تجاه الاتحاد السوفياتي في هذا الشأن سيكون بمثابة استرضاء كذلك الذي حصل عليه هتلر من القوى الغربية، وخاصة بريطانيا، بالتهام جزء من تشيكوسلافيا، أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. ولم يزده ذلك إلا تجرؤا ونهما. لينتهى الأمر إلى كارثة الحرب العالمية الثانية.

هذه واحدة. أما السابقة التاريخية الأخرى، والتي استدعاها الرئيس كنيدي ذاته وشقيقه روبرت، فهي أن الحروب الكبرى، كالحرب العالمية الأولى، قد تنشب لا لظروف موضوعية وإنما نتيجة للخوف المتبادل بين أطراف دفعها التصعيد إلى حرب لم تكن راغبة فيها، بل وربما كانت تود تحاشيها. كان هـذا التحليل لب كتاب “مدافع أغسطس”، للمؤرخة باربرا تَشمان، الذي صدر ذلك العام. وهو كتابٌ عن تاريخ الحرب العالمية الأولى، طالعه كنيدي الرئيس وأكثر من الاقتباس منه.

كان الخيار إذن أمام كنيدي: أهي حرب عالمية ثالثة، نووية، يمكن تحاشيها، فيُجنب العالم تكرار مأساة الحرب الأولى؟ أم هو غزو محتوم لكوبا، لا محيد عنه، حتى لو أدى ذلك لمواجهة مع الاتحاد السوفياتي، هي على قبحها قد تكون أخفَّ وطأة من تنازلات قد تنتهي بنهم سوفياتي أوسع وربما حرب عالمية ثالثة؟ وانتهى الأمر إلى تبني الخيار الأول، وبتنازلات معلنة بأن الولايات المتحدة لن تغزو كوبا، وسرية للسوفيات بإزالة الصواريخ النووية الأميركية في تركيا خلال أمد محدد، وإن لم يعلن عن الأخيرة إلا بعد ربع قرن من تلك الصفقة. وتحاشىالأميركان والسوفيات، والعالم، حربا كبرى أخرى.

كان تجاوز الأزمة الكوبية لحظة فارقة في الحرب الباردة. فقد كانت تلك أول مواجهة مباشرة بين قطبي الحرب، وباحتمالات غير هيّنة للجوء للأسلحة النووية. صحيحٌ أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قد انخرطتا في صراعات طرفية محدودة قبل وبعد الأزمة الكوبية (مثل الحرب الكورية في ١٩٥١ ولاحقا حرب فيتنام أواسط الستينيات). ولكن الأزمة الكوبية كانت أول وأهم اختبار لقدرة قطبي الحرب الباردة على إدارة الصراع بينهما، ليس برغم قدرة كل منهما على تدمير الآخر نوويا، ولكن بسبب تلك القدرة.

وبدا لأول مرة منذ بداية الحرب الباردة أن الكوابيس المرعبة من اندلاع حرب نووية قد لا تتحقق، وأن السلام ممكن في ظل التهديد النووي المتبادل بين أميركا وروسيا وكتلتيهما. وقد استقبلت القيادات في البلدين انفراج الأزمة بكثير من التفاؤل، وإن لم يخلُ من تشكك. صبيحة إعلان بنود الاتفاق بين الأميركان والروس (في الثامن والعشرين من أكتوبر)، كان العنوان الرئيس لصحيفة البرافدا الروسية، لسان الحزب الشيوعي: “اضمنوا السلام والأمن للشعوب” ثم بافتتاحية على صدر الصفحة الأولى عنوانها وفحواها أن “صوت العقل قد ساد” في تلك الأزمة.

وبالارتياح ذاته استقبل الأوروبيون الاتفاق. بل ونال الثناءُ الزعيمَ الروسي خروشوف. ومن ذلك أنْ شكره وزير الخارجية البلجيكي حينها “بول-هنري سباك” وهنأه على حسن إدارته للأزمة، وقال: “ربما يبزغ من ظلام أيام الأزمة بعض الخير.” وكان يقصد تقدما في المفاوضات بين قطبي الحرب الباردة بشأن التسليح النووي. وهو ما سيتحقق بُعيد ذلك في المعاهدة المحدودة لمنع تجارب الأسلحة النووية، والتي صدّق عليها كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بعد مُضيِّ نحو عام على الأزمة الكوبية. بموجب هذه المعاهدة، مُنع تجريب القنابل النووية فوق الأرض وتحت الماء (وإن لم يُمنع تحت الأرض). وكانت المفاوضات حول ذلك المسعى قد بدأت قبل ذلك بثمانية أعوام.

أما كنيدي فقد خرج من الأزمة بطلا، في الولايات المتحدة وفي أوروبا. ومع سرية التنازلات الأميركية في تركيا، بدا أن الأزمة انتهت في المحصلة النهائية لصالح الولايات المتحدة. في بريطانيا وصفت صحيفة “ديلي إكسبرس” نهاية الأزمة بأنها “نصر دبلوماسي مؤزّر للولايات المتحدة. ولكنه أيضا نصر للسلام، ناتج عن جرأة وثبات (الإدارة الأميركية) مصحوبين بقوة وواقعية.” على الجبهة الداخلية، حفظ الحزب الديمقراطي، حزب الرئيس، سيطرته على مجلسي الشيوخ والنواب في انتخابات التجديد النصفي التي انعقدت بعد انتهاء الأزمة بأيام. وهو ما دل على دعم عموم الشعب الأميركي لإدارته للأزمة الكوبية ولبرنامجه التشريعي.


من زاوية مختلفة

ولكن ثمة زوايا مختلفة للنظر لما تحقق في عهد كنيدي. ففي مضمار السياسة الدولية، في نظر أكاديميين ومؤرخين، لم يدل سجل كنيدي على البطولة بقدر ما دل على الاضطراب. من هؤلاء هانز مورغنثاو، أحد أبرز منظري السياسة الدولية في القرن العشرين، والذي كتب في العام ١٩٦٦، في دورية “نيو يورك رفيو أوف بوكس”: “بدرجة كبيرة، كانت بلاغة كنيدي في خطبه ورسائله منبتّة عن الفعل. … كانت أدبا سياسيا رفيع المستوى، ولكنها لم تكن — كما كان الحال مع تشرشل وروزفلت — فعلا مسجلا في كلمات، أو تفسيرا وإرهاصا لفعل سيلحق. لم يكن ثمة علاقة عضوية بين أقوال كنيدي وأفعاله.”

ودلل مورغنثاو على ذلك بموقفين. الأول خطاب كنيدي في يوليو ١٩٦١ حول أهمية أن يبني الأميركان مخابئ تحسبا لهجوم نووي، وعزم الحكومة على توفير الإعدادات لتلك لمخابي لعموم الأميركان. يقول مورغنثاو إن الرئيس لم يكن قد تدبر الأمر قبل الحديث عنه في خطابه المتلفز. إذ لم يكن معلوما بالضبط ما الغرض من تلك المخابئ ومدى نجاعتها حال وقوع هجوم نووي. ومن ثم كان على إدارة كنيدي، بعد إذاعة الخطاب، أن تبحث عن تصور معقول لمشكلة المخابئ وبحيث يبدو أنها تتسق مع ما قال الرئيس. أي أن الإعلان سبق التفكير والتدبر. (كان مخبأ كنيدي المضاد للإشعاع في ولاية فلوريدا. ولم يُعلن عنه إلا عام ١٩٧٤. وصار الآن مزارا سياحيا.)

الموقف الثاني تعلق بمنظور كنيدي للعلاقة مع ألمانيا الغربية والاتحاد السوفياتي. ففي خطابه في الجامعة الأميركية في العاصمة واشنطن في العاشر من يونيو ١٩٦٣، دعا كنيدي بخطاب تصالحي لعلاقات أفضل مع الاتحاد السوفياتي لأجل السلام الدولي. بعد ذلك بأسبوعين في زيارته لألمانيا الغربية أكد كنيدي أن برلين الغربية كانت رمز الحرية لكل أحرار العالم (في إشارة إلى أن ألمانيا الشرقية، والتي كانت تحت السيطرة الشيوعية، لم تكن تحظى بالحرية). يقول مورغنثاو إن تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفياتي وفي ذات الوقت انتقادهم على سياساتهم في ألمانيا الشرقية كانا أمرين متناقضين، لم يتيسر الجمع بينهما إلا بلاغيا، وليس على أرض الواقع. ولكن كنيدي، كما يذهب مورغنثاو، لم ينتبه لذلك التناقض أو ربما لم يعبأ به.

وثمة تجلٍّ آخر لتلك القطيعة بين القول والفعل لدى كنيدي، يتمثل في النشاطات السرية لأجهزة استخباراته. ففي كلمته في حفل التخرج في الجامعة الأميركية بواشنطن، والتي خصصها للحديث عن السلام، قال كنيدي: “أي نوع من السلام يجب أن نبتغي؟ ليس السلام تحت المظلة الأميركية أو التهديد الأميركي بأسلحة الحرب، وليس سلام الموت أو الاستعباد. وإنما أتحدث عن سلام حقيقي — ذلك النوع الذي يجعل الحياة جديرة بأن تُحيا، النوع الذي يساعد الأفراد والأمم على التطور وعلى الأمل في حياة أفضل لأنفسهم وذويهم. ليس فقط سلاما للأميركان وإنما لكل البشر، رجالا ونساءا.”

بيد أن سياسات الولايات المتحدة في تلك الفترة لم تتسق بالضرورة مع خطاب السلام للشعوب والأفراد. فخلال حكم الرئيس كنيدي، وفي أجواء السعي لاحتواء الخطر الشيوعي، شاركت الاستخبارات الأميركية في محاولات سرية لإسقاط أنظمة غير متحالفة معها، كما في كوبا في العام ١٩٦١ (وإن كان التخطيط لذلك سابق على وصول كنيدي الحكم)، وفي الإطاحة بخوان بوش رئيس دولة الدومينيكان في ١٩٦٣.

لم يبدُ أن ثمة قطيعة خلال سنوات كنيدي مع الممارسات الاستخباراتية التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما تبدَّى في التعاون مع البريطانيين للإطاحة برئيس وزراء إيران المنتخب محمد مصدق في ١٩٥٣، ورئيس جواتيمالا في ١٩٥٤، ثم بُعيد وفاة كنيدي في الانقلاب العسكري المدعوم أميركيا في البرازيل في ١٩٦٤ ضد حكومة منتخبة ديمقراطيا، وفي الكونغو في العام ذاته ضد الزعيم الشاب باتريس لومومبا. ومن المقطوع به أن إسقاط أنظمة منتخبة لم يكن متسقا مع آمال السلام التي بثها كنيدي.

وفي الشأن الداخلي، لئن كان سعي كنيدي الحثيث لإصدار قانون الحريات المدنية لم يُصب نجاحًا إلا بعد رحيله، فإن كثيرين يرون أن إصدار القانون إنما تحقق فقط بفضل براعة خلفه جونسون في تحريك القوانين في الكونغرس عبر بناء التحالفات التصويتية، واستمالة المتشككين والخصوم. وكان لجونسون باعٌ طويلٌ بالكونغرس، زاد على ثلاثة عقود، ثلثاها في مجلس النواب والثلث في مجلس الشيوخ، عن ولاية تكساس.

في “تمرير السلطة،” وهو الكتاب الرابع في سلسلة سيرة الرئيس جونسون، يكشف المؤلف، روبرت كارو، بعض ما دار خلف الأبواب المغلقة قبل تمرير القانون الشهير. فلدى وفاة الرئيس كنيدي نصحه كُثُر ألا ينفق وقته في قانون لا يمكن تمريره بسبب المعارضة من الجمهوريين ومن ديمقراطيي ولايات الجنوب. فكان رد جونسون، “وما فائدة الرئاسة إذن (إن لم أستطع إنجاز الأجندة التشريعية المرجوة)”؟ معقبًا على كتاب كارو، ودور جونسون في إنجاز قانون الحقوق المدنية، كتب بل كلنتون، الرئيس الأميركي الأسبق: إن قدرة جونسون “على تمرير التشريعات في مجلسي النواب والشيوخ لم يحزها رئيس أميركي آخر.” وهي قدرة ربما لم يحزها كنيدي. وربما لقي القانون مصيرا آخر لو كان الرئيس الشاب في سدة الرئاسة حين صوت أعضاء الكونغرس.

كنيدي الرجل … كنيدي الأسطورة


أمِن الإنصاف، حين ننظر لحياة رجل عاش في وعي مواطني بلاده لعقود، أن نكتفي بتسجيلٍ حسابيٍ لما حقق وفيمَ أخفق؟ هذا وجهٌ آخرُ من أوجُه المراوغة التي يُطالعُنا بها إرث كنيدي. فرصيد الساسة في حياة الأمم يمكن أن يتجاوز حسابات الأرقام، إذا ما استطاعوا – على سبيل المثال – أن يُورِثُوا مواطنيهم شعورًا بالعزة، أو بدفء الانتماء لوطن جامع، أو بالتطلع بتفاؤل لمستقبل أفضل لأنفسهم وبَنيهم من بعدهم. كان هذا مثلا جزءا من نجاح حملة رونالد ريغان الانتخابية لولايته الثانية في العام ١٩٨٥، التي ركّزت على بث التفاؤل بالمستقبل، عبر الإعلان التليفزيوني الشهير (بصوت ريجان مصاحبا الصورة): “إنه الصباح في أميركا مجددا.”

وكان هذا شأن كنيدي. فقد كان صعوده لسدة الحكم باعثا لآمال التجدد في الأمة الأميركية. وكانت قد مضت عقود طويلة على الأميركان وهم في قبضة العَوَز أو الخوف — منذ الكساد الكبير في الثلاثينات، ثم أهوال الهجوم الياباني في بيرل هاربر، فالحرب العالمية الثانية وتسخير الاقتصاد للمجهود الحربي. وحتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وصل الساكن الجديد للبيت الأبيض وكان بالكاد قد خلع زيه العسكري، الجنرال أيزنهاور، قائد قوات التحالف على الجبهة الأوروبية. وخلال سنوات أيزنهاور تشكل وعي الأميركان بالحرب الباردة، وتجذرت مخاوفهم من الرعب النووي.

حين وَليَ كنيدي السُّلطة، وتسلَّم مقاليدها من أيزنهاور، بدا الرئيس الشاب كفصل جديد من فصول التاريخ. كان متخففا من صرامة سلفه، فلم يجد غضاضة في أن يسخر من نفسه (ومن زوجته، بتهذب) على الملأ. ثم إن زوجته الحسناء (والتي تتحدر من أصول فرنسية أثرتها البورصة في نيويورك) كانت شخصية عامة تتابعها الصحف وتشغل حيزا في الوعي العام. زِد على ذلك أنه كان أول رئيس كاثوليكي في دولة كان المذهب البروتستانتي فيها الأكثر الانتشارا والأعمق تاريخا، خاصة بين الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.

إلى كل ذلك أضف رخاء الستينيات الذي بدأ في عهده، وسعيه الدائب لتمرير قانون الحقوق المدنية، ونجاحه في نزع فتيل أزمة الصواريخ الكوبية، لتعرف لماذا وصفته صحيفة “ذا جورنال أميركان” بالشهيد حين رَثَته: “كان كنيدي أكثر من ضحية. كان شهيدا. ليس شهيد الحزب الديمقراطي، وإنما شهيد جسدت حياته معاني الشخصية سامقة الخصال.”

ربما أورث ذلك الشعور الجمعي بالتجدد الذي صاحب كنيدي حسرةَ “النهاية قبل الأوان” لدى رحيله المباغت. وفي تلك الحسرة، لم يزن المواطن الأميركي سجل الرئيس الشاب بميزان النجاحات والإخفاقات (فحسب)، وإنما ترامى بصره لسؤال الحيرة “ماذا لو”؟ ماذا لو أكمل كنيدي فترته الرئاسية واستمر في تاليةٍ كما بدا ممكنا في خريف ١٩٦٣؟

حول هذا السؤال يتمحور كتاب صدر مؤخرا للمؤلف “جف جرينفيلد” عنوانه: “لو عاش كنيدي: ولاية كنيدي الأولى، والثانية - تاريخ بديل.” بيد أن طرفا من “أسطورة” كنيدي إنما يعود لكونه لم يكمل مدته الرئاسية. فالرئيس الشاب، كما لاحظ المؤرخ والأكاديمي بجامعة برنستن جوليان زليزر “ربما صار أكثر شعبية بعد وفاته.” وأكبرُ الظنّ أن الصحف الأميركية والأجنبية قد أسهمت في ذلك، إذ سرعان ما قرنت اغتيال كنيدي باغتيال الرئيس السادس عشر، أبراهام لنكولن، قبل ذلك بنحو مئة عام. فنال ذكرُ كنيدي شيئا من الهالة التي يحفظ الأميركان لرئيسهم الذي حفظ لهم وحدة البلاد. في نعيها كنيدي، قالت افتتاحية صحيفة “مانيلا هيرالد” الفلبينية: “سيبقى الرئيس كنيدي، كشأن الخالد لنكولن، مُنَصّبا في قلوب بني بلاده. فقد حاول الأول أن يكمل طموح الأخير، وأن يخطو الخطوة النهائية في مسار التحرير الكامل للسود في الولايات المتحدة.”

ولم يكن الشعور بالفقد حكرًا على الأميركان. فقد ظهرت في غير بلد تعابير عن أسى تجاوز التعازي الرسمية. من ذلك أن الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، بُعيد الاغتيال مباشرة، أعلى اسم الرئيس الأميركي على ميدان في الجزائر العاصمة، ليكون “ساحة جون كنيدي.” في القاهرة، وصف الرئيس جمال عبد الناصر في رسالة لأرملة كنيدي بأن رحيله “خسارة للإنسانية”، وأرسل ممثلين عنه للقداس على روح الرئيس الراحل بكنيسة “سان جوزيف” والذي حضره ما يربو على أربعة آلاف مصلّ. وفي باكستان نُكِّست رايات الجمهورية، وفي الدنمارك أعلن الملك أولاف حدادا رسميا لأربعة عشر يوما.

ثم إن وفاة كنيدي كانت متلفزة. وقد كان لهذا أثرُهُ في تأجيج المشاعر، وأضاف للألم العام الذي حلَّ بالجميع لرحيله — سياسي شاب تخطفه إلى الموت رصاصات مباغتات ليسقط في حِجر زوجته المبهوتة. (كانت التغطية الخبرية لاغتيال كنيدي أول ما نقل التليفزيون الروسي بالأقمار الصناعية في تاريخه.) ولم يكن موت كنيدي فقط ما حدث في الوعي العام. فقد سبق موته بثلاثة أشهر أنباء طفله الرضيع “باترك” والذي وُلد قبل أوانه بنحو خمسة أسابيع ثم قضى نحبه بعد نحو أربعين ساعة من مولده.

ولما توفي كنيدي رصدت الكتب عنه ما حاول كنيدي وذووه إخفاءه: مرضه وآلامه. فقد كان كنيدي مصابا بمرض “أديسون”، والذي ينتج عن اضطراب في إفراز الغدد لهرمونات منها الكورتيزول، فتصاب العضلات بالضعف والجسم بالوهن. وكان يعاني أيضا من آلام مزمنة في الظهر منذ شارك في الحرب العالمية الثانية. قال شقيقه روبرت لاحقا: "من مجموع الأيام التي قضاها أخي على الأرض، كان نصفها على الأقل مترعا بالألم."

وأضاف غموض اغتيال كندي لمشاعر الإشفاق نحوه وعائلته. فبعد الاغتيال بساعات أوقف البوليس المشتبه به "لي هارفي أوزولد" الذي اعترف بأنه من أطلق الرصاص. بعد ذلك بأيام، خلال ترحيل أوزولد، وعلى مرأى من كاميرات التليفزيون، قتله صاحب ملهى ليلي اسمه "جاك روبي." والأخير مات بدوره بسرطان الرئة أثناء انتظاره المحاكمة. وقد خلصت في سبتمبر 1964 لجنة لتقصي الحقائق قادها "إيرل وُرين" (الرئيس السابق للمحكمة الدستورية العليا) إلى أن أوزولد كان الجاني الوحيد في اغتيال كنيدي. ولكن ذلك لم يضع نهاية للشكوك حول تورط أعضاء نافذين في الحكومة في التخطيط للاغتيال، بعضها نال نائب الرئيس كنيدي، لندون جونسون. تجد هـذا مثلا في فيلم "جيه إف كيه" (الأحرف الأولى لاسم كنيدي) الذي صدر في العام 1991 للمخرج الأميركي أوليفر ستون.

بأخلاط متفاوتة من تلك العناصر نشأ ما قد يوصف بـ “أسطورة كنيدي” — حيث خلع الوعي الجمعي على كنيدي بالأماني ما حالت دون تحقيقه المنايا. وكما الحال في الأساطير، وجد بعضهم فرصة ليجني أرباحا. من هؤلاء “بيل أورايلي” مذيع فوكس نيوز المتطرف، الذي نشر كتابا ركيك اللغة والمضمون بعنوان “قتل كنيدي” بيعت منه ملايين النسخ (وصدرت منه نسخة كارتون للأطفال مؤخرا).

وكغيرها من الأساطير، يقرأ الأفراد في أسطورة كنيدي أصداء أنفسهم وما يرضي أهواءهم. فاليمين المتطرف (كأورايلي) يركز على مواجهة كنيدي للمد الشيوعي. والجمهوريون يذكرون له تخفيضه الضرائب (وإن تغافلوا عن حقيقة أنه سعى لتخفيضها إلى نطاق أعلاه ٦٥ بالمائة بينما سقفها الآن ٣٥ بالمائة). والديمقراطيون، بنو حزبه، يجلونه لأسباب مفهومة. والسود يعظمونه لدوره في الدفع في اتجاه قانون الحريات المدنية (لو دخلت بيت رجل أسود، كما قال أكاديمي مؤخرا لمجلة “يو إس نيوز”، ستجد الجدران دوما مزينة بثلاثة صور: للمسيح، ولمارتن لوثر كنغ، ولجون كنيدي).

وعرفه الناس قبل ذلك كله كأب عطوف، يستمهل الصحافيين ليقبل ابنته كارولاين قبل بدء مؤتمر صحافي، وكزوج شتته علاقات نسائية ولكنه ظل محبا لزوجته وحريصا على زواجهما، خاصة بعد وفاة رضيعهما. ولم يكذب بشأن تلك العلاقات كما سيفعل ساسة أميركيون لاحقا. ربما لأجل هذا كان الشعور بموت البراءة عندما دوّت في دالاس الرصاصات القاتلات ظهيرةَ ذلك اليوم البعيد من نوفمبر.