الخميس، 19 يونيو 2008

في الطفرة التالية: وداعا للفأرات (الحاسوبية)

تُنبئ الطروحات الأخيرة من كبرى شركات البرمجيات مايكروسوفت وأبل بأن الفقزة التالية في واجهات المستخدم ستكون في اتجاه الأجهزة الحاسوبية المشغلة باللمس، ويشمل ذلك الحواسيب والهواتف النقالة، إضافة إلى تلك التي لم يسدل دونها الستار بعد.


ربما يعود أغلب الفضل في تحسين صورة الفئران لدى البشر لشخصين: والت ديزني وستيف جوبز. فالأول بّدل الصورة غير المحببة للفئران بأخرى ملونة وذكية وخفيفة الظل في شخصية "ميكي ماوس" الكرتونية التي ظهرت في عشرات الأفلام (ثم المنتجات التجارية). أما الثاني، أحد مؤسسَي شركة أبل للحواسيب، فطرح للمرة الأولى حواسيب تعتمد كلية على واجهة المستخدم الجرافيكية والتي يشغلها المستخدم عبر فأرة حاسوبية، وليس عبر كتابة الأوامر النصية، وهي الطريقة التي كانت قَصَرت استخدام الحاسوب على المبرمجين وحدهم تقريبا. وحدث هذا التطور مع طرح أنظمة "آبل ليسا" في العام 1983. وقد تبعت مايكروسوفت خطى أبل وطرحت في العام التالي نظام "ويندوز" ذي الفأرة الحاسوبية والأيقونات، وليظل هذا النوع من واجهات المستخدم – أي الوسيط الذي يترجم أوامر المشغِّل البشري إلى أوامر مفهومة للآلة الحاسوبية – بغير منافس خلال ربع القرن الماضي. وكان دوجلاس إنجلبارت، الأستاذ بجامعة استانفورد قد طور و17 من معاونيه الفأرة الحاسوبية وعرضوها للنظارة للمرة الأولى في التاسع من ديسمبر/كانون الأول في العام 1968، بعد أن عكفوا على تطويرها لنحو ست سنوات.

نهاية حقبة الفئران

الآن ثمة إشارات على نهاية حقبة الفأرات (الحاسوبية). ففي التاسع من يناير/كانون الثاني 2007 أزاحت شركة أبل النقاب عن الإصدار الأول من هاتفها "آي فون" (iPhone). وكما يعرف قراء كثُر، لم يبد الـ "آي فون" كغيره من الهواتف، إذ خلا تماما من الأزرار التي تحمل الأرقام والحروف كما الحال في أقرانه. فقد بُني هاتف آبل النقال على واجهة جرافيكية تعمل كلية باللمس. لمسة على أيقونة تفتح ملفا وأخرى تحرك قائمة خيارات أو تنقلك من تصفح الإنترنت لسماع الموسيقى. وليست الواجهة اللمسية في حد ذاتها أمرا جديدا. فقد اعتمدت عليها منذ أواسط التسعينات الصرافات الآلية وبعض الأجهزة الإلكترونية الموجهة للأميين أو ضعاف البصر. ولكن الجديد في هاتف أبل كان إمكانية استخدام أكثر من أصبع واحد لإجراء مهام مختلفة. بتقريب أصبعين من بعضهما أو إبعادهما يستطيع المرء تصغير صورة (أو نص) أو تكبيرها. وبدا أن هذا التطور التكنولوجي قد حظى بالاستقبال الحسن لدى جمهور المستخدمين عندما طرح الـ "آي فون" تجاريا في التاسع والعشرين من يونيو/حزيران 2007، رغم ارتفاع سعره مقارنة بمنافسيه.


وخلال ما يقارب العام الذي مر بين الإصدار الأول والإصدار الثاني (التاسع من يونيو/حزيران 2008)، أعملَ المبرمجون في الشركات المنافسة لأبل عقولهم وسواعدهم ليلحقوا بالموجة الجديدة في الواجهة اللمسية التي اعتلى ذروتها الـ "آي فون". فشركة مايكروسوفت كشفت مؤخرا عن واجهة مماثلة (أسمتها surface computing)، وأعلنت أن تلك الإمكانية ستتاح في الأجهزة العاملة بنظام ويندوز "فستا" ولكنها ستكون أكثر تطورا في الإصدار القادم من ويندوز المسمى مبدئيا ويندوز 7، والذي سيطرح في النصف الثاني من 2009، كما في الإصدار الجاري تطويره من ويندوز للهواتف النقالة والمسمى ويندوز موبايل 7.


وفي ذات السباق طرحت بالفعل شركتا سامسونج (طراز "إنستنكت") وإل جي (طراز "برادا") الكوريتان هواتف تعمل باللمس. أما نوكيا الفنلندية وبلاكبري الكندية، فكلتاهما تعملان حثيثا على اللحاق بالمنافسة. وقد تسربت صور ومعلومات عن تصميم تلك الهواتف قيد التطوير، وكلها ترمي بصورة واضحة لتقليد هاتف أبل بمنحنياته الناعمة وأيقوناته الباهرة، وإن ظل يسر الاستخدام عامل التمييز بين هذا العدد المتزايد من الطروحات الجديدة.


عودة الروح لواجهة المستخدم

ويلفت هذا التطور إلى أربعة أمور متعلقة بتطور الحواسيب والأجهزة الحاسوبية خلال العقود الثلاثة المنصرمة.

أولا، مع نمو صناعة الحواسيب (العتاد الحاسوبي والبرمجيات) تركز الانتباه (والاستثمارات) على البرامج التي ترفع الإنتاجية (وتخفض الأسعار) وليس على واجهة المستخدم. ونجد ذلك في التطور المتسارع الذي حظيت به البرامج المكتبية (مثل حزمة Office من مايكروسوفت) وبرامج إدارة الأعمال (مثل حزم قواعد البيانات من شركات "أوراكل" و"ساب"). أما على جانب العتاد الحاسوبي، فقد اهتمت الشركات الكبرى بتوحيد معايير الإنتاج (لرفع الإنتاج وخفض الكُلفة) أكثر من ابتكار حواسيب قادرة على التفاعل مع المستخدم بأساليب جديدة. وقد مثلت هذا التوجه بصورة خاصة شركة "دِل" التي كانت تُتهم – أو تُمدح أحيانا – بأنها حولت الحواسيب لـ "صناديق" رخيصة، تخلو من أي ابتكار في التصميم.


وربما يفسر ذلك أن القدرات المحدودة للمعالجات الحاسوبية كانت تحتم بدرجة ما ترتيب الأولويات في استخدام قدرة الحواسيب. وكانت واجهة المستخدم تأتي دوما في قاع سلم الأولويات. أما وقد حدثت فقزات كبيرة في قدرات المعالجات الحاسوبية خلال الأعوام القليلة الأخيرة، فقد بدا طبيعيا أن يعاد النظر في واجهة المستخدم التي ركد ماؤها لنحو ربع قرن تقريبا. وقد كانت أبل من ألقى بالحجر. ومن أجلى مظاهر تطور قدرات المعالجات الحاسوبية ما يتوافر الآن من رقائق حاسوبية ثنائية المحور (dual-core) ومتعددة المحاور (multi-core) من شركات "إنتل" و"إيه إم دي" الأميركيتين.


أما الأمر الثاني حول إقبال المصنعين على الواجهة اللمسية الجديدة فالإدراك المتنامي لدى مصنعي الحواسيب والبرمجيات بأن تحسين واجهة المستخدم يجب أن يؤخذ كجزء من الجهد لرفع إنتاجية المستخدم عامة. ففي أغراض كثيرة كانت واجهة المستخدمة (المعتمدة على الفأرة أو أشرطة اللمس الصغيرة بجوار لوحة المفاتيح على الحواسيب المحمولة) تمثل عائقا دون إنجاز الأعمال وليس عونا عليها. فمثلا، لا يملك المرء بعد أن يجرب تصفح الإنترنت على شاشة تعمل باللمس مباشرة (مثل الـ "آي فون") إلا أن يتعجب كيف قضى تلك الأعوام مقيدا ببطء استخدام الفأرة الحاسوبية وشبيهاتها. وربما تكون شركة أبل أفضل ممثل لفلسفة التركيز على واجهة المستخدم وأهميتها. فرغم أن الشركة لا تسيطر إلا على نحو 4% فقط من سوق الحواسيب الشخصية في العالم (مقارنة بحوالي 93% لنظام ويندوز من مايكروسوفت) فإنها تتمتع بسمعة طيبة وولاء شديد لدى عملائها. كما أثبتت مغامراتها في أسواق الأجهزة الحاسوبية (مثل مشغل الموسيقى "آي بود" وهاتف "آي فون") أن واجهة المستخدم اليسيرة والكفوءة قادرة على اجتذاب ملايين المستخدمين.


وثالثا، تعضد الواجهة اللمسية موقع البرمجيات (مقارنة بالعتاد الحاسوبي) كمركز الطفرة الحاسوبية التي نشهدها خلال العقود الأربعة الأخيرة. فإدخال البيانات إلى الحواسيب كان يتم عبر ملحقات طرفية مادية (الفأرات ولوحات المفاتيح). وكان المستخدم مقيدا بإمكانيات هذه الملحقات. فلوحات المفاتيح تحمل لغة واحدة أو على الأكثر لغتين. أما مع الواجهة اللمسية، فالإمكانيات لا نهاية لها، لأنه لا توجد مفاتيح مادية وإنما أيقونات ملونة يمكن أن تصير الأحرف الأبجدية التي يختارها المستخدم من بين عشرات الخيارات المتاحة (ليس من بينها العربية حتى كتابة السطور). فالبرمجيات المتقنة تؤدي أدوارا متعددة بغير تقييد المستخدم بإطار محدد من العتاد الحاسوبي.


وأخيرا، مع انسحاب الفأرات الحاسوبية ينفسح المجال أمام جيل جديد من الأجهزة الحاسوبية التي تأتي في إمكانياتها في مرتبة وسطى بين الهواتف النقالة والحواسيب النقالة. فللهواتف النقالة شاشات عرض لا تزيد في الأغلب عن 3.5 بوصة؛ أما الحواسيب النقالة فلا يقل حجم شاشاتها عن نحو 10 بوصات. وقد يؤدي انعدام الحاجة للفأرة (ولوحة المفاتيح المادية) إلى ظهور جيل جديد من حواسيب صغيرة بشاشات عرض 7 أو 8 بوصات، كما أوردت صحيفة نيويورك تايمز في الخامس من يونيو/حزيران الجاري. وقد طرحت شركات هيولت باكارد وآسوس وإيسر طرزا مصغرة من الحواسيب المحمولة التقليدية بشاشات تتراوح بين 7 و10 بوصات، ولكن من المبكر الحكم على مدى نجاحها.


بيد أن ثمة ثمنا يُدفع بينما نعلن نهاية حقبة الفئران الحاسوبية. فخلال الأعوام الطويلة التي تسللت فيها الفأرات لمكاتبنا وغرف معيشتنا وغرف نومنا، لم يكن هناك سوى واجهة مستخدم واحدة، وكانت حواسيبنا وأيدينا (والفأرات تحت أيدينا) مجهزة للتعامل مع هذه الواجهة. أما التحول للواجهات الجديدة فسيصحبه بطبيعة الحال تحديث اضطراري تقريبا لحواسيبنا وبرمجياتنا. وهو تحديث ربما لا يتوق إليه البعض، ترقبا لم سيصحب ذلك من نفقات.


وإذ يتجدد النقاش حول واجهة المستخدم الحاسوبية يثور السؤال حول اللحظة التي يصبح فيها البشر بغير حاجة لواجهة، أو وسيط بينهم عقولهم و"عقول" الآلات. ربما بدأ هذا السؤال كتهويمة في مخيلة كتاب الخيال العلمي. ولكنه صار حقيقة في الثاني والعشرين من يونيو/حزيران 2004، حين زرعت للمرة الأولى رقيقة حاسوبية في دماغ شاب أميركي أصيب بشلل في حادث، وكان قادرا عبر تلك الشريحة المثبتة بأقطاب كهربية في دماغة على التحكم في لعبة حاسوبية، ورؤية أثر هذا التحكم عبر شاشة مثبتة أمامه. وكان الأطباء من شركة "سايبر كاينتكس" التي طورت الشريحة يأملون أن يتمكنوا من تحسينها لتنقل أوامر الدماغ لأطراف اصطناعية تقوم مقام تلك التي تلفت أو بُترت، وربما نتمكن من التحكم في الكمبيوتر.


وليد الشوبكي


نشر المقال بصحيفة السـفير اللبنانية، 19 يونيو 2008