الأحد، 7 يوليو 2013

الثلاثون من يونيو وتبرئة الضمير الجمعي للمصريين

شهد عام د. مرسي في الحكم مواقف عديدة من التمييز ضد مواطنين مصريين، والذي بلغ أحيانا الاضطهاد والعنف والقتل. لو لم يعرف المصريون من رذائل حكم د. مرسي و"الأخوان المسلمون" سوى هذا لكفاهم سببا للانتفاض وإنفاذ التغيير.

ومشاهد التمييز عديدة ومتمايزة الدرجة. لعل أبسطها كان التمييز ضد غير المسلمين في لغة (وأماكن) خطابات الرئيس السابق. ثم كان التمييز ضد غير الأخوان في المناصب القيادية في الدولة. ثم التمييز ضد المسلم غير السني كما كان في صمت الرئيس السابق أواسط يونيو الماضي لدى الإساءة للشيعة في حضوره، ما ارتقى للتحريض المباشر، والذي ترجمه بُعيد ذلك بأيام موتورون مجرمون لحادث مُروع قضى فيه أبرياء منتمون للمذهب الشيعي (وشمل اللقاء الجماهيري أيضا شيطنة للمختلفين سياسيا ودعوات بأن ينزل الله بهم أشد العقاب).  وقبل ذك كله وخلاله الأمثلة لا تُحصى على التمييز ضدالمصريين من المسيحيين، في أحاديث قادة الأخوان وأعضائهم والمتحلقين حولهم.

أمام تلك الحلقات من التمييز ضد مصريين، كان لدى عموم الشعب المصري خياران. أولاهما أن لا يشاركوا في ممارسات التمييز وأن يرفضوها بالقلب أو القول حين تسنح الفرصة. والثاني أن يرفضوها بالفعل، بالسعي لإسقاط هيكل الحكم الذي يغذي ذلك التمييز ويُمنهِِجُه. ورغم أن نزول المصريين بالملايين في الثلاثين من يونيو كان لأسباب عديدة، فليس من المبالغة القول إن سببا منها كان رفض البعد التمييزي الذي بدا كجزء من بنية نظام حكم الأخوان. وقد رفض أغلب المصريين، فيما يبدو، تحمل شعور الإثم الجمعي (كما حدث للألمان على أثر الجرائم ضد اليهود أو للأوروبيين على أثر جريمة استرقاق الأفارقة) لجرائم تمييز لم يقترفها سوى فصيل سياسي واحد ضمن الطيف السياسي في مصر المعتدل/الوسطي في أغلبه.

ولست أقصد من ذلك أن أزعم أن الشعب المصري صار يؤمن بالقيم الليبرالية من نوع الحرية المطلقة للأفراد في المعتقد والتعبير وغيرها. فلا شك أن مكونات تمييزية/استبدادية/متطرفة تسربت لمسالك التفكير لدى نفر غير قليل من المصريين خلال العقود الماضية. ولكن حتى لدى هؤلاء، كان الخوف من الآخر المختلف دينيا أو طائفيا يتوقف غالبا عند التمييز السلبي (مثلا بتحاشي الاختلاط). أما تحت حكم الأخوان فقط رأينا حالة من التمييز العنيف والممنهج، والذي لم يرُق لأغلب المصريين فيما يبدو، بمن فيهم هؤلاء الذين يقبلون بطرف من التمييز السلبي على طريقة "دعهم في حالهم؛ لهم دينهم ولي ديني."

لو نظرنا للأمر من هذه الزاوية لوجدنا بعدا حتميا في انتفاضة الثلاثين من يونيو. والمقصود هنا، كما قال كتاب وأكاديميون كثر، أن عمومية الشعب المصري رفضت ضمن ما رفضت في حكم الأخوان "تطبيع" التمييز، أي جعله أمرا طبيعيا ومقبولا، حتى لو سيق لتبرير ذلك نصوص مقدسة. ومن ثم، فإن المشهد الملاييني في الثلاثين من يونيو كان في وجه من وجوهه تبرئة للضمير الجمعي المصري من وصمة قبول التمييز ضد مصريين والانتقاص من كرامتهم. 

الخميس، 4 يوليو 2013

"انقلاب" نباهي به العالم

من حق كل منا أن يخطئ التقدير أو يتلعثم في البيان. ولكن يثير الانتباه ويدعو لمحاولة سبر الغور ذلك الذي يشبه الإجماع لدى كثرة غالبة من الأخوة العرب من غير المصريين في رفضهم القاطع أن تكون أحداث الثالث من يوليو تعبيرا ما عن الإرادة الشعبية.

كتب، مثلا، أحد الأصدقاء، على تويتر:
"ألا يفهم متظاهرو #التحرير أن الجو الذي جعلهم يخرجون للميادين ويرددون الشعارات ملء أفواههم دون خوف هو الديمقراطية التي يغتالونها ببلاهة؟"

وكتب زميل سابق:
"ما حدث بمصر يعطينا دروسا في أساليب حشد الغوغاء، وخطورة الإعلام، والمال السياسي، والأهم حقيقة أن الجيش في مصر هو الدولة ومصدر السلطات."

 وثمة أمثلة عديدة غير ما أسلفت. 

والسؤال إذن: لماذا هلل وتهلل هؤلاء في ١١ فبراير لدى إسقاط مبارك ولم يبادروا للفعل ذاته لدى إسقاط مرسي في الثالث من يوليو، رغم أنهما كليهما تعبير عن الإرادة الشعبية الغالبة (فلم يكن كل المصريين ضد مبارك في الأولى ولا مرسي في الثانية)؟

حاولت الإجابة من أيام عبر التمييز بين الديمقراطية كفكرة والديمقراطية كفعل. وذهبت إلى أن أغلب أخواننا غير المصريين تركز بصرهم على الفكرة، أي على مبدأ أن من أتى بالانتخابات لا يذهب بغيرها، بينما يراها المصريون الذين عاشوا حقبة مرسي باعتبارها لحظة التقاء الفكرة/المبدأ بالواقع، واعتمال تلك الفكرة في الواقع اليومي. ومن ثم، فمفهوم الديمقراطية لدى ملايين المصريين الذين خرجوا لرفض د. مرسي أثرت فيه ملابسات الحياة اليومية (من إدارة لشؤون البلاد وتوفير الأساسيات مثل الكهرباء والبنزين) مما لا يحوزه نظر من يعيش خارج الظرف المصري.

ولكن لما بدا ما بدا من رفض للإرادة الشعبية الغالبة (لكل من أبقى عينيه مفتوحتين خلال الأسبوع الماضي)، فسأقترح هنا سببين آخرين كامنين لرفض كثير من العرب غير المصريين إرادة جموع المصريين هـذه المرة والإساءة لها والاستعلاء عليها. الأول أن الحفاوة بإسقاط مبارك في فبراير ٢٠١١ تعلقت بمبارك أكثر مما تعلقت بالإرادة الشعبية للمصريين.  ففضلا عن كراهية المصريين له، كما تجلت في النهاية في الإطاحة به، كان الرئيس المصري السابق محط كراهية الشارع العربي لأسباب عديدة. منها خاصة موقفه من حصار غزة (والهجوم الإسرائيلي عليها في ٢٠٠٩) واعتباره في نظر الكثيرين (ولأسباب معقولة) أحد المنفذين الأساسيين للسياسية الأميركية في المنطقة.

كان ثمة ائتلاف من الكارهين إذن لمبارك. فلما ثار المصريون ضده بارك الكارهون إسقاط من قامت ضده الثورة وليس بالضرورة عزيمة وإرادة من ثار.  وتبدى ذلك حين تجلت تلك العزيمة وتلك الإرادة مجددا خلال أحداث الأسبوع المنصرم في رفض جر البلاد لحرب أهلية، ورفض الفقر المدقع في القدرة على إدارة البلاد، ورفض العودة لطرائق حكم من العصور الوسطى. فما كان من ائتلاف كارهي مبارك إلا أن نعتوا المصريين بالغوغاء، وغياب الإرادة (يحركهم المال وشاشات التليفزيون) وسلوكهم بالبلاهة.

فإن كان الأمر متعلقا بمبارك في الماضي، ولما لم يعد مبارك جزءا من المشهد الآن، فما سبب تطوع كثيرين بنقد منحى الإرادة الشعبية المصرية الآن؟ أحد جذور ذلك في ظني أن الكثيرين متشربون بالخطاب (والمشروع) الإسلامي، والذي يرى غاية الحكم في إرضاء الرب بدلا من الشعب، أو على حساب الأخير. فكثير من هؤلاء نما وعيه السياسي ضمن أحلام ووعود مشروع إسلامي للحكم، ولم يتحملوا أن يتضعضع بنيانهم هكذا على عجل، كهياكل المومياوات، أمام أول هبة شعبية.

ومن ثم سيسمونه انقلابا. وهذا شأنهم. أما لماذا يميل المحللون الأجانب لمفهوم الانقلاب فهذا حديث لمداخلة أخرى.

أغلب المصريون فرحون، وفرحهم مستحق.  فإن أسماه البعض انقلابا، فغيرهم كثر يدركه كتعبير ثري عن إرادتنا الجمعية. فالأسماء ليست الأشياء. واكتمال تبلور تلك الإرادة لن يظهر إلا حين يترسخ مسار التحول الديمقراطي في مصر باتجاه وطن يرحب كل المصريين بغير تمييز من أي نوع.  وخلال ذلك الحين، إن أسموه "انقلابا" فليكن. وبه نباهي العالم.